فن تبسيط العلوم


بقلم: سهام الشريف

 

عندما يتواصل العلماء والباحثون فيما بينهم، فإنهم يستخدمون لغة تغلب عليها المصطلحات المتخصصة؛ ولكل تخصص مصطلحاته ونظرياته المختلفة. وإذا أراد باحث في تخصص ما أن يفهم ما يقوله زميله المتخصص في مجال آخر، يتطلب الأمر تبسيط اللغة المستخدمة وتوضيح المصطلحات والنظريات المختلفة. وفي حالة مخاطبة الباحث للجمهور غير المتخصص، فإن الأمر يتطلب منه قدرة خاصة على توصيل المعلومة وفنًّا خاصًّا لتوصيل الرسالة إلى عقول الجمهور. في هذا المقال، سنتناول أسس فن تبسيط العلوم.

ما المقصود بتبسيط العلوم؟

يهدف تبسيط العلوم إلى تثقيف الجمهور وتوعيته بالموضوعات العلمية. كان تبسيط العلوم في السابق يتم عبر المجلات العلمية والكتب والمؤتمرات ووسائل الإعلام التقليدية. ولكن في عصر التطور التكنولوجي، أصبح لدينا الوثائقيات والبودكاست والندوات الإلكترونية والنشرات البريدية ووسائل التواصل الاجتماعي والمحاضرات العامة (مثل محاضرات تيد) والافتراضية.

وإذا تحدثنا عن أهمية تبسيط العلوم للعامة، فنجد أن أهم أهدافه التثقيف وبث الفضول في عقول الناس حول الموضوعات العلمية، وتشجيع الجيل الجديد على اضطلاع دور في تطوير العلوم والتأثير في مجتمعاتهم. ومن أهداف تبسيط العلوم أيضًا إطلاع الجمهور على نتائج الأبحاث الجديدة ورفع وعيهم بما يمكنهم من تكوين آرائهم فيما يخص الأمور التي تتطلب استخدام حلول علمية.

وتظهر أهمية تبسيط العلوم لغير العامة في عدة أشكال منها: التواصل مع الصحافة والمنابر الإعلامية واطلاعهم بآخر مستجدات الأبحاث العلمية، أو التواصل مع صناع القرار لعرض حلول علمية لمشكلات المجتمع، أو لإقناع المستثمرين لتمويل المشروعات البحثية من أجل تطوير منتجات جديدة وإنتاجها.

ولكن يواجه مبُسط العلوم تحديات وصعوبات عند تبسيط الموضوعات المجردة والموضوعات الشائكة. وهنا السؤال هو: كيف يقدم مُبسط العلوم محتوى جذاب وممتع للجمهور.

تحديد الهدف

في البداية، يجب على مُبسط العلوم أن يحدد هدفه من تقديم المحتوى العلمي؛ فالهدف يختلف تبعًا للموضوع وللجمهور المستهدف. فقد يكون الهدف هو رفع مستوى الوعي أو بناء الثقة أو التواصل أو الإقناع أو التشجيع على دراسة العلوم أو إلهام العلماء الصغار. وقد يكون الجمهور من فئة العامة أو الطلاب أو الصحفيين أو صناع القرار أو المستثمرين.

معرفة الجمهور

تبسيط العلوم ليس له طريقة وحيدة صالحة مع كل فئات الجمهور، ولكن يجب تخصيص محتوى مناسب لكل فئة؛ فالجمهور يختلف من حيث العمر والتعليم والاهتمامات والخبرات والاحتياجات. وتبعًا لفئة الجمهور، تختلف لغة الحوار والوسائط المتعددة والأمثلة المستخدمة؛ فيمكن تقديم ذات الموضوع لفئات جماهيرية مختلفة بطرق مختلفة. فمثلًا عند مخاطبة فئة الطلاب، نستخدم أمثلة وتشبيهات ومجازات مختلفة تمامًا عن تلك التي نستخدمها مع صناع القرار.

ولكل فئة توقعاتها المختلفة؛ فالجمهور العام ينتظر منك معرفة النتائج التي تؤثر في حياته ومجتمعه. أما وسائل الإعلام، فهي تنتظر منك معرفة مدى أهمية نتائج بحثك ومدى اختلافه عما أنجزه الآخرون. وأما فئة المستثمرين، فهي تنتظر منك رؤية الأرقام والإحصائيات التي تقنعها بحجم العائد الناتج عن الاستثمار.

ويجب أن تضع في الحسبان الاعتبارات الاجتماعية والدينية والثقافية والمعرفية والسياسية. والجمهور العام جمهور غير متخصص تختلف أعماره واهتماماته وآراؤه وخبراته؛ فيتضمن التعامل معه احترام معرفته السابقة واستخدام الأمثلة والتشبيهات الملائمة. وحتى تضمن بقاء الجمهور متحمسًا، عليك أن تأخذ في الاعتبار أن معرفته عن الموضوع محدودة، وأن تعطي الأولوية للموضوعات التي يهتم بها عن الموضوعات الأخرى.

تخصيص الرسالة

بعدما عرفت الجمهور المستهدف، يجب تحديد الرسالة المراد إيصالها وتخصيصها بناءً على طبيعة الجمهور؛ فيجب معرفة كيف يفكر الجمهور بهذا الموضوع لمعرفة كيفية الإجابة على تساؤلاته. ويجب صياغة الرسالة بكلمات واضحة وأسلوب بسيط. ويجب أن نضع في اعتبارنا أن الهدف ليس تسويق للفكرة المطروحة ولكن بناء الثقة مع الجمهور وجذبه لتشجيعه على المشاركة في مناقشة الموضوعات العلمية.

ويجب على مُبسط العلوم أن يضع نفسه محل الجمهور، وأن يبدأ في تجهيز المادة العلمية بناء على معرفته وأسئلته؛ فمثلًا يسأل نفسه: ما الذي يعرفه جمهوري عن هذا الموضوع؟ ما أهمية الموضوع بالنسبة له؟ ما الخطوات التي سيتخذها بعد معرفة هذا الموضوع؟ وما مستقبل هذا الموضوع؟

قد يكون الجمهور من النوع المتشكك؛ فيكون التعامل الأنسب معه هو الإجابة على جميع تساؤلاته وإزالة جميع شكوكه، كذلك من المهم البدء بالفكرة الرئيسية ثم الفرعية.

وفي حالة المحاضرات العامة والمنتديات، يُفضل أن يعد مُبسط العلوم مسبقًا الإجابات على التساؤلات التي تخص التأثيرات والنتائج والاحتمالات، حتى يكون النقاش ثريًّا مع الجمهور. ويجب التحضير قبل المحاضرة بوقتٍ كاف، والبدء بمقدمة تمهيدية، والاهتمام بشرح آلية العمل وليس النتائج فقط.

أما في حالة التواصل مع صناع القرار، سواء في الاجتماعات أو المناقشات العامة، فيجب معرفة المشكلات التي يهتم بها صناع القرار، ويجب طرح حلول واقعية بالإضافة إلى استخدام لغة الحوار وتلخيص أهم النقاط.

تحديد الوسيلة الإعلامية

في العصر الحالي تنوعت الوسائل الإعلامية ووسائل التواصل مع الجمهور، فقد تكون وسيلتك للتواصل مع جمهورك مقالةً تكتبها أو فيلمًا تنتجه أو ندوةً إلكترونية أو برنامجًا، أو غير ذلك.

فإذا كانت وسيلتك الإعلامية كتابة المقالات في المجلات أو المواقع الإلكترونية المتخصصة أو كتابة الكتب، فيجب عليك ألا تستخدم المصطلحات الصعبة والكلام المكرر، ويجب تجنب استعمال أساليب التورية والتلاعب بالألفاظ. وإذا كنت ستقدم المحتوى العلمي عبر برنامج أو وثائقي أو بودكاست، فيجب استخدام لغة ملائمة للجميع وخالية من التعقيدات، ومقنعة في ذات الوقت.

تقييم الأداء

تقييم الأداء أمر ضروري حال أردت الاستمرار في النجاح في مجال تبسيط العلوم. فالاستمرار في النجاح يكون بالتطوير والتحسين المستمر، ولكي نحسن من الأداء يجب أن نستخدم أدوات للتقييم والقياس، فالشيء الذي لا يمكن قياسه لا يمكن تحسينه. ويمكنك قياس نجاحك في تبسيط العلوم عن طريق متابعة عدد المشاركات والمشاهدات وعدد التعليقات على مدونتك، أو بإجراء الاستبيانات، أو من خلال تتبع تعبيرات المستمعين واستجابتهم لك. فمن خلال ذلك كله تستطيع تقييم أدائك والبدء في عملية التطوير.

نصائح مفيدة

  • استخدم أسلوب السرد القصصي

أسلوب السرد القصصي من الأساليب القوية والناجحة في جذب الجمهور؛ فعندما تحول الموضوع العلمي المعقد إلى قصة ترويها فإنها تتحول إلى شيء بسيط ينفذ إلى العقول بسرعة، وتجذب الجمهور إلى عالمك. ولكن اجعل القصة بسيطة وواضحة، كذلك اجعل قصتك تتحدث عن قصص النجاح والتحديات والفرص في إطار وصف الإنجاز العلمي.

اجعل موضوعك العلمي قصة مشوقة لها بداية ووسط ونهاية وبها شخصيات وعقدة وحل، ويمكن إضافة حس الفكاهة؛ فهو أمر محبب. يمكن استخدام هذا الأسلوب عند عرض قصة عن اكتشاف كبير أو عن كيفية وصول اختراع إلى النور، أو عند شرح أثر ظاهرة ما في المجتمع. وتذكر أن استخدامك للقصص لا يعني تزوير الحقائق.

  • تجنب استخدام المصطلحات

المصطلحات كلمات ذات معنى لا يفهمه إلا المتخصصين. ولكن، إذا تحدث المتخصص بها مع غير المتخصص تصبح بلا معنى، بل وقد تمثل عائقًا للحوار وفهم ما يدور. لذا، عليك تجنب استخدام المصطلحات ومحاولة استخدام بدائل مقبولة أو تقريب المعنى بجمل بسيطة. وفي ذات الوقت، لا تزيد من التبسيط إلى حد الضحالة.

للتأكد من خلو عرضك أو حديثك من المصطلحات، اسأل نفسك الأسئلة التالية، وذلك وفقًا للاتحاد الأمريكي للجيوفيزياء (جمعية علمية غير ربحية). والأسئلة هي: هل تلك الجمل لها معنى مختلف في حواراتنا العادية؟ هل تستخدمها فقط عند مناقشة الأبحاث؟ هل يعرف أصدقاؤك وأفراد أسرتك معناها؟ هل تمثل عائقًا للفهم؟ وهل يمكن استخدام بدائل مقبولة وواضحة لها؟

وإليكم مثال على محاولة تقريب معنى المصطلحات، قامت به إحدى الباحثات وهي تحدث جمهورها عن الحوسبة الكمومية. بدأت بسؤال الجمهور عن فائدة الحاسوب؟ ثم سألتهم وماذا لو لم يستطع الحاسوب –أو حتى الحاسوب الفائق– إنجاز مهمة صعبة، فهنا فهم الجمهور المقصد دون الدخول إلى المصطلحات الصعبة.

  • استخدم الوسائل البصرية

استخدام الوسائل البصرية والوسائط المتعددة والتصميمات الفنية (مثل الرسوم البيانية والإنفوجرافيك والرسوم التوضيحية والصور والخرائط) يضفي جانبًا من البهجة والمرح ويزيد تفاعل الجمهور، كما يجذب الانتباه. وكما يقولون الصورة تغني عن ألف كلمة.

عليك باستخدام الألوان بحكمة، وأن تعرف أسس اختيار الألوان، وعليك باستخدام صور عالية الجودة ومزودة بالبيانات اللازمة. وعند استخدامك لشرائح العرض، لا تشتت الجمهور بوضع نصوص أو صور كثيرة.

  • اطلب من الجمهور

شجع على التفاعل واطلب من جمهورك شيئًا له علاقة بالموضوع الذي تشرحه؛ قد يكون الطلب اتباع سلوك ما أو التفاعل أو التفكير. فمثلًا بعدما تشرح أن السلاحف تموت على الطريق السريع وأنه ازداد موتها، اطلب من الجمهور الانتباه عند المرور بالقرب موائل الحيوانات في أثناء قيادة السيارات. ويجب أن يكون الطلب له علاقة بالجمهور وقابل للتنفيذ. فلا يمكن تطبيق المثال المذكور في بلد ليس به سلاحف!

  • استمر في التعلم

تعلم من زملائك أو أساتذتك أو من الخبراء أو المشاهير في مجال تبسيط العلوم، لكي تكتسب خبرات جديدة وطرقًا مختلفة. كذلك، تعلم من أخطائك ومن تعليقات الجماهير؛ شارك في المنتديات والمجموعات المعنية التواصل العلمي أو في الورش والدورات المتخصصة.

  • اجعل الطلاب يشاركونك

إذا كان جمهورك من الطلاب، فاجعلهم يشاركونك لأن حماسهم أكبر من أي فئة أخرى. فعندما تجعل الطلاب يشاركون معك في المناقشة والحوار وطرح الأسئلة وإجراء التجارب، يضفي ذلك جوًّا من المتعة والإثارة.

  • كن متحمسًا

يجب أن تظهر حماسك وشغفك بالموضوع الذي تقدمه، فالحماس مُعدٍّ وسينتقل إلى الجمهور تلقائيًّا. وإظهار الحماس يكون من خلال لغة الجسد أو نبرة الصوت أو الانفعالات التعبيرية أو الإيماءات، أو استخدام الأسئلة وأساليب التعجب، وغيرها.

  • عليك بالممارسة

لن تمتلك مهارات العرض والتقديم وتبسيط المعلومة بين ليلة وضحاها، وإنما بتكرار الممارسة وأخذ التقييمات ومعرفة آراء الجمهور، كل ذلك سيصقل تلك المهارة. وإذا كنت تُبسط العلوم من خلال الكتابة، فعليك بممارسة الكتابة كثيرًا، وقراءة مقالات عديدة، حتى تُكوِّن أسلوبك الخاص.

  • ابدأ بالأكثر أهمية

ابدأ بالنتيجة المهمة ثم اسرد بالتفاصيل بعد ذلك. إذا كنت باحثًا أخبرهم أولًا عما تعمل عليه وما اكتشفته، ثم تحدث عن أهميته، ثم اذكر بعض المعلومات والتفاصيل التي توضح الموضوع؛ وهو ما يسمى في الصحافة بالهرم المقلوب.

  • ثلاث نقاط رئيسية

قسِّم حديثك إلى ثلاث نقاط رئيسية ثم ادعمها بمزيد من المعلومات.

  • لا تتحدث عن النتائج فقط

اهتم بالقصة الكاملة. تحدث عن كيف وصل الاختراع إلى النور أو كيف اكتشف العلماء هذا الاكتشاف. فهذا يمكنه إثارة فضول غير المتخصص، كما أنه يُفرق بين العلم الحقيقي والعلم الزائف.

 

ختامًا، نجد أن تبسيط العلوم ضروري ﻷسباب عدة، أهمها رفع مستوى الوعي والتشجيع على فهم العلوم. وعلى العلماء والباحثين والمختصين في المجال العلمي أن يجيدوا هذا الفن ليساهموا في نهضة الأمم.

 


المراجع