عودة إلى البرامج

ساعة الذروة


ليوناردو ألفونسي

مدير الفعاليات

شركة سيكوادرو

بيروجيا، إيطاليا

Email | LinkedIn | Twitter

  نظرة عميقة  

ساعة الذروة

تأملات متنقلة في مستقبل الفعاليات العلمية

 

| الوقت المُقدر للقراءة: 18 دقيقة

 

هذه المقالة منشورة في مجموعة مقالات سبوكس Spokes بعنوان «وجهًا لوجه» Face to Face

 

يزداد التشابه بين مصطلح «مشاركة الجماهير في العلوم» وبين عربات القطار الكهربائي في ساعة الذروة؛ فكلاهما يعج بمختلف الأشخاص والمعاني، ما يُصعِّب علينا أحيانًا فهم أين نحن وعمَّا نتحدث حقًّا. مثلما يحدث في القطار الكهربائي، قد ينتابك إما شعور برهاب الأماكن المغلقة يصاحبه رغبة في القفز من القطار في أقرب فرصة؛ وإما يعتريك فضول مُلِّح لمعرفة مزيد عن كل هؤلاء الأشخاص، وشعور بالتساؤل عن جميع احتمالات المستقبل التي يمثلونها والاتجاهات التي يتجهون نحوها.

في مشهد «مشاركة الجماهير العامة»، يتضاعف الفاعلون والدلالات؛ وتُعدُّ الفعاليات العلمية ومنظموها جزءًا من ذلك بالتأكيد. فقد وُلد هذا المجتمع حول فكرة الاستمتاع بالتحديات الفكرية والعملية للعلوم من خلال المهرجانات بوصفها شكلًا من أشكال الاحتفال، وقد تطورت لتكوِّن سياقًا ثقافيًّا وافيًا لاختبار تفسير انعكاسي للعلوم في المجتمع. وقد وسَّع هذا فكرة «المهرجان» نحو مفهوم أعم عن «الفعالية» و«المشاركة» بصفةٍ عامة.  والآن، أضحى هذا المجتمع أكثر من زمرة منظمين لمهرجانٍ للعلوم، بالطريقة ذاتها التي كانت بها مجتمعات مراكز العلوم ومتاحفها – منذ وقتٍ طويل – أكثر من مجرد ملتقى للمؤسسات الثقافية التي تدير نوعًا محددًا من الأماكن. وكلا المجتمعين يجمعان جهات ثقافية؛ مثل: المؤسسات العامة، والجامعات، والبلديات، ومراكز البحوث، والرابطات القومية والدولية والإقليمية، والمنظمات غير الحكومية، والمؤسسات، وجميعها يهدف إلى خلق سياقات وفرص لمشاركة تجربة ثقافية مستوحاة من العلوم ومصممة وفقًا لها.

 

الصورة رقم 1: زوار فعالية «نزهة العلوم» في وارسو ببولندا، نظمها الراديو البولندي ومركز كوبرنيكوس للعلوم.

 

بحكم عملي في مجال توصيل العلوم وكوْني فيزيائي، أعمل في تطوير مشروعات التواصل العلمي وإدارتها منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي على المستوى المحلي (الإيطالي) والدولي، في مفترق طرق الفعاليات ومجتمعات مراكز العلوم ومتاحفها. ومنذ عام 2004 أشغل منصب مدير الفعاليات في شركة سيكوادرو، وهي شركة اجتماعية أنسق فيها حاليًّا إحدى شبكات فعالية ليلة الباحث الأوروبي (European Researchers’ Night) في إيطاليا ومسابقة مختبر الشهرة (FameLab). كذلك شغلت منصب رئيس جمعية المشاركة العلمية الأوروبية (European Science Events Association) – وتُعرف اختصارًا بـEusea) – من عام 2012 إلى 2016. وفي هذا المقال، سأشارك خبرتي حول تطور الاحتفاليات والفعاليات العلمية.

يبدو ما نرصده في الاحتفاليات والفعاليات وكأنه أحد الإصدارات الجديدة لعملية ثقافية تركز على فكرة الإتاحة، والمشاركة، والتبادل الثقافي. فتستغل الفعاليات التجمعات العامة بوصفها فرصةً للجميع لاستكشاف العلوم، والتكنولوجيا، والمجتمع، ولتحفيز إقامة روابط شخصية ذات معنى مع العمليات المجتمعية المعقدة التي ننغمس فيها جميعًا.

دعوني أولًا ألقي نظرة تاريخية على ميلاد مهرجانات العلوم وتطورها قبل مناقشة التحديات الرئيسية التي في رأيي ستواجه نمو مجتمع الفعاليات العلمية.

كيف وصلنا إلى هنا؟

تزايدت أعداد مجتمع منظمي الفعاليات العلمية كثيرًا وازداد تنوعًا حول العالم في السنوات الخمسين الأخيرة، ما أدى إلى ميلاد شبكات حيوية في أوروبا وحول العالم. وفي بداية القرن الجديد، أُنشئت رابطة الفعاليات العلمية الأوروبية (European Science Events Association - Eusea) لتكوِّن مجتمعًا يضم الآن أكثر من 100 عضو في أوروبا، ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط. من المثير للاهتمام أن الشبكة التي احتفظت باسمها المختصر غيرت معناه لتوِّها ليصبح (European Science Engagement Association) أو رابطة «المشاركة» العلمية الأوروبية. ويعكس هذا التغيير مختلف الجهات الفاعلة والإجراءات المتنوعة التي تشملها الشبكة، وربما استراتيجية تموضع في رَكب المشاركة العامة. ويُعدُّ تحالف المهرجانات العلمية (Science Festival Alliance - SFA) في الولايات المتحدة مثالًا آخر مثيرًا للاهتمام لمجتمع الفعاليات العالمي مستوحى من التجربة الأوروبية. فأُنشئ التحالف بمقره الرئيسي في متحف معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في عام 2009، لتشجيع ظهور مهرجانات العلوم في شتى أنحاء الولايات المتحدة، ويضم الآن أكثر من 40 مهرجانًا حضرها أكثر من 2.6 مليون شخص، وفقًا للتقرير السنوي للتحالف لعام 2016. ناهيك عن أمثلة الصين مع مهرجان بكين للعلوم الذي تديره جمعية بكين للعلوم والتكنولوجيا، ومهرجان شانغهاي للعلوم الذي اُحتفل بنسخته السنوية في مايو الماضي (2017)، والذي يضم أيضًا الصالون الدولي لمهرجانات العلوم الذي يستضيفه متحف شانغهاي للعلوم والتكنولوجيا بالتركيز على مهرجانات العلوم والتطوير الحضري. وتنضم روسيا أيضًا للصف بخبرة مهرجان روسيا للعلوم الذي تديره جامعة لومونوسوف الحكومية بموسكو أو مهرجان نوفوسيبيرسك للعلوم؛ وكذلك الشرق الأوسط بمهرجان أبو ظبي للعلوم، وليست أمريكا الجنوبية، وأفريقيا، وجنوب شرق آسيا باستثناء من تلك الظاهرة.

 

  متلازمة «أجل، أريد واحد في فنائي الخلفي»  

 

حاليًا، ليس من الممكن أن نعبر عن هذا الزخم برقمٍ ما؛ فلا يبدو أن أحدًا يعلم عدد المهرجانات العلمية، فضلًا عن عدد الفعاليات العلمية حول العالم. وغياب تلك المعلومات يمثل إحدى البيانات المفقودة على الخريطة، وفجوة من الضروري سدها، وأحد التحديات الأساسية أمام مجتمعنا ليفهم نفسه وتأثيره الحالي والمستقبلي بصورةٍ أفضل. ولكن حتى بدون معرفة العدد الدقيق لركاب عربة القطار الكهربائي، يبدو وكأن متلازمة «أجل، أريد واحد في فنائي الخلفي» أثرت في عديد من الأماكن والمؤسسات؛ فيزداد ركاب عربة القطار عددًا في حين يزداد مساره تعقيدًا.

«يبدو أن الحاجة لإقامة فعالية علمية لمدينة ما بمثابة حاجتها لإقامة مكتبة أو ملعب كرة قدم»، كما أخبرني ستيف بيزي من مؤسسة مشروعات العلوم Science Projects في التسعينيات؛ حيث كنا نتحدث عن مراكز العلوم. قد يتغير السبب من مكان إلى مكان، ويبدو أن المنطق الواضح في عقل المنظم مفتاح النجاح والهوية المتزنة والمستدامة، بالإضافة إلى رابطٍ قويّ مع المجتمعات المحلية. في عديد من الحالات، كانت وما زالت الأماكن المعتادة للفعاليات الثقافية التي تغيرت بفعل الفعاليات العلمية (مثل المدرجات، والمسارح، وقاعات المحاضرات، ومراكز الأبحاث، وورش العمل، إلخ...)، أو الأماكن غير المعتادة لتوصيل العلوم، أحد خواص الفعاليات العلمية. فلا يساعد اختيار الميادين، والشوارع، ومحطات القطار، والحانات، والمراكز التجارية، والمتاحف، وغيرها من الأماكن لإقامة الفعاليات في الوصول إلى جماهير جديدة فحسب، ولكن أيضًا يستهدف وسائل جديدة لجذب الناس، وهذا بفضل التغيير المستمر للسياقات المعنية.

 

الصورة رقم 2: عرض روكيت إت العلمي (Rocket It Science Show)، تقدمه شركة سيكوادرو، بمهرجان موسكو للعلوم، 2012.

 

في السنوات العشرين الأخيرة، ولدت كل الجهات آنفة الذكر مجموعة واسعة من الفعاليات المختلفة؛ حيث أصبحت أشكالها، وأفكارها، ولغات التواصل، والمحفزات، والأسس الجوهرية متنوعة جدًّا، بل إن كلمة مهرجان نفسها قد تبدو عتيقة في الواقع أحيانًا. وحتى إذا استطاعت فعالية علمية أعمُّ – ولكن محايدة – ضم مجموعة أوسع من الأوجه والهُويات، فإن كلمة واحدة لن تكفي لوصف تعقيدها.

 

  احتفالية، فعالية... كلمة واحدة لا تكفي للتعبير عن هذا التنوع والتعقيد  

 

هناك فعاليات تضم مختلف أشكال الأنشطة التي تتراوح من العروض العلمية إلى المعارض، وألعاب تأدية الأدوار، والبرامج الحوارية، والعروض المسرحية، والمؤتمرات، وعروض الأفلام، وورش العمل، وأماكن الصنع، ومقاهي العلوم، والمناظرات العامة، والبرلمانات العلمية، وغيرها. وإذا كنت تريد استكشاف الخواص الرئيسية لتلك الأشكال، فيمكنك البدء بقراءة الكتاب الأبيض الأول – والوحيد حتى هذه اللحظة – الذي كُتِب في مهرجانات أو احتفاليات العلوم، من إنتاج رابطة المشاركة العلمية الأوروبية عام 2005. يبدو وكأنه منذ وقت طويل، ولكنه يرسم أول خريطة وافية ومفيدة جدًّا لمحاولة فهم السياق.

 

الفكرة هي فتح الصندوق الأسود، لإزاحة الستار وتوضيح الأمور، ولإنشاء جسور بين الخبراء وغير الخبراء؛ وقد كانت في الواقع فكرة بدء عملية من الداخل إلى الخارج هي أصل كل الفعاليات العلمية. لاختصار القصة، كان يا مكان، كان هناك «مهرجان العلوم»، ولا يزال قائمًا، بالنظر إلى الرقم المتزايد للمؤسسات البحثية والجهات الثقافية أو أصحاب المصالح الاجتماعية أو السياسية الذين يحاولون بدء مهرجانٍ ما أو نوع آخر من الفعاليات العلمية.

وقد ظهرت مهرجانات العلوم في البداية بوصفها واجهة عامة لمؤتمر للعلماء، عندما بدأت الجمعية البريطانية للنهوض بالعلم مهرجانها في دمجٍ مع اجتماعها المتجول السنوي في 26 سبتمبر 1831، وفي غضون مائة عام أو أكثر قليلًا، أصبح هذا النوع من الفعاليات حدثًا ثقافيًّا متعدد الأوجه.  ويمكن أن نعطي مثالين معاصرين لهذا النهج، بعيدًا عن الجمعية البريطانية للنهوض بالعلم، مثل المنتدى العلمي الأوروبي المفتوح الذي يُعقد كل عامين في مدينة أوروبية مختلفة، ويجمع العلماء وأخصائيي التواصل معًا مع المواطنين للتفكير والنقاش حول الموضوعات والتحديات العلمية، ودمج أنشطة توصيل العلوم مثل المعارض، وورش العمل، والعروض مع الفعالية التي تأخذ طابع المؤتمر العلمي؛ وهناك أيضًا فعالية ليلة الباحث الأوروبي.

 

الصورة رقم 3: الديسكو الصامت (The Silent Disco) خلال فعالية ليلة الباحث الأوروبي 2016 في بيروجيا.
تصوير: ماركو جيولياريلي

 

ليلة الباحث الأوروبي فعالية متزايدة الأهمية، أطلقتها المفوضية الأوروبية في عام 2005 في إطار فعاليات ماري سكودوفسكا-كوري تحت مطالبة حماسية معبرةً عن الجُهد الصادق للباحثين ليكونوا جزءًا نشطًا ومعترفًا به في مجتمعهم المحلي: «الباحثون هم أناس عاديون ذوو وظائف غير عادية». ولأكثر من عقد من الزمن، جذب هذا الحدث مشاركة كبيرة من الباحثين حول أوروبا، وأصبح أحد أكبر الفعاليات التي تشركهم بنشاط في حوارٍ مع المواطنين. لإعطاء بعض الأرقام: اشتركت 340 مدينة في النسخة الأخيرة مع أكثر من مليون زائر في ليلة واحدة، وفقًا للبيانات التي جمعتها المفوضية الأوروبية وعُرضت في الفيديو الرسمي لتقديم الفعالية.

 

تحديات تتجاوز الأرقام

 

الأرقام، حتى وإن كانت مهمة وضرورية للفعاليات، فهي ليست المتغير الوحيد الذي يقيِّم الحركة، كما شدد منسقو فعالية ليلة الباحث الأوروبي في اجتماعهم الأول الذي عُقد في بروكسل في مايو الماضي (2017). من السهل نقل بعض التحديات المحددة لمستقبل هذا الحدث إلى الفعاليات العلمية عمومًا، لتؤخذ في الحسبان عند تخيل فعالية جديدة أو تطوير فعالية راسخة:

(أ) الحاجة إلى الوصول إلى مجتمعات أوسع وإشراكها بشكل نشط، لمحاولة دمج البحث وتوصيل العلوم مع الإدماج الاجتماعي. فقد حان الوقت لتقوية الجهود نحو جعل الفعاليات العلمية أكثر من مجرد أداة لنشر الحماسة من خلال عروض النيتروجين السائل البراقة، ومحاولة جعلها معدية، ولكن أيضًا لتطوير أشكالٍ جديدة من التأملات في التحديات الاجتماعية. ويمكن أن تكون أدوات واستراتيجيات المشاركة التي طورها «منظمو الفعاليات» حتى الآن مفيدة لتقديم عمليات متاحة لجماهير أكبر.

  هل سيتطور نموذج المهرجان نحو ورشة عمل للمشاركة  

  والتأمل في التحديات الاجتماعية؟  

 

تُعدُّ الأنشطة مثل البرلمانات العلمية أو التجارب التي طورتها «ورشة الأيام القادمة» في فلسطين أو في إقليم الباسك لترويج مشاركة المواطنين في عمليات البحث باستخدام المهرجانات سياقًا حواريًّا محاولات مثيرة للاهتمام لتطوير نموذج المهرجان إلى ورشةٍ للمشاركة. وقد سُئل في فعاليات عدة إن كانت المهرجانات نجحت في الوصول إلى عدد يتجاوز المشاركين بالفعل، وهذا حقًّا أحد التحديات الرئيسية لمستقبل الفعاليات. فمع إن طبيعة المهرجانات متعددة الأوجه وإنها قادرة على تنظيم أنشطة في أماكن غير معتادة، مستخدمةً استراتيجيات تواصل غير معتادة تساعد على الوصول إلى جماهير جديدة، فما زال هذا يبدو تحديًّا كبيرًا.

(ب) تعلُّم كيف يمكن لوسائل التواصل الاجتماعي التأثير في التواصل العلمي والبحث ككل فيما يُسمى بحقبة ما بعد الحقيقة، وكيف ستؤثر في فعاليات المشاركة. وحيث إن إتاحة الاجتماع مع أُناس حقيقيين في أماكن حقيقية أحد عوامل النجاح الرئيسية للفعاليات، فكيف يمكن الربط بين صور التواصل عبر مواقع التواصل الاجتماعي والتواصل داخل الفعاليات؟

(ج) تصميم أدوات تقييم فعالة وموحدة للأنشطة المُطوَّرة هو تحدٍ ثالث كبير. فلا ينقصنا الرقم الدقيق للفعاليات فحسب، بل أيضًا يعوزنا وجود أرضية مشتركة لدراسات الأبحاث عن كيفية قياس تأثير الفعاليات من وجهتي النظر النوعية والكمية.

(د) الحاجة إلى تدريب الباحثين والعلماء بفاعلية لتطوير مهارات التواصل لديهم، حتى يتجاوزوا مفهوم «الانتشار» الحماسي لديهم، وتطوير مهارات التواصل الشخصية، وهو إجراء يمكن أن يستحث تغيرات مؤسسية داخل الجامعات والمؤسسات البحثية.

 

يبدو أن تلك نقاط مهمة، ليس فقط للفعاليات التي تنشئها المؤسسات البحثية، وإنما أيضًا للبانوراما المزدهرة للفعاليات الثقافية المهداة للعلم، والتي تنظمها مجموعة متنوعة جدًّا من الجهات، من الجمعيات الثقافية إلى المدن والبلديات التي تريد تطبيق استراتيجيات جديدة للتحفيز الترويجي لمنطقتها، وجمعيات رواد الأعمال التي تهدف إلى تأمل الابتكار خلال الفعاليات الثقافية بالتركيز على العلم والتكنولوجيا، وأخصائيي توصيل العلوم الذين يريدون تطوير أشكال جديدة من المشاركة وحب التحديات المبتكرة لتطوير فعاليات جديدة.

 

تحدي الحوار والتعاون بين الخبراء

 

بالنظر إلى تاريخ الفعاليات، من الممكن التعرف على تلك التي صُممت وطُورت بشكل أساسي عبر الأوساط الأكاديمية مباشرةً وتلك التي صممها وأقامها خبراء في مجال توصيل العلوم. ومع إن الحدود بين النوعين تنطمس مع الوقت، فإن هذا التصنيف حقيقي، ويقترح تحديًّا آخر لفعاليات المستقبل. فسيكون من الأساسي دمج الخبرة الراسخة، والتقاليد والثقافة لجهات توصيل العلوم؛ مثل: المتاحف، ومراكز العلوم، أو منظمي المهرجانات، والصحفيين، وأخصائيي التواصل مع خبرة المؤسسات البحثية والجامعات التي تهدف إلى توليد «أخصائيي تواصل باحثين» لترويج المبادرات الجديدة التي تشغل المشاركة العامة في ساعة ذروتها. إن أمكن حدوث هذا مع تجنب معارك الهوية غير المجدية، فقد تحدث قفزة نوعية نافعة لجميع المواطنين.

 

الصورة رقم 4: المؤتمر السنوي لرابطة المشاركة العلمية الأوروبية، 2017، لوفان - ورشة عمل «تقديم مشروع».
تصوير: ريمار أوت

 

قام كل من إريك جينسن، عالم اجتماع في جامعة وارويك، ونيكولا باكلي، المدير المعاون بمركز العلوم والسياسات في جامعة كامبريدج ورئيس مشاركة الجمهور سابقًا، بالتحقيق في «لماذا يحضر الناس مهرجانات العلوم» واصفين الاهتمامات، والمحفزات، و«المنافع المبلغ عنها ذاتيًّا عن المشاركة العامة مع البحث».

يوضح البحث أن «الزوار يقدرون الفرص التي تقدمها مهرجانات العلوم للتفاعل مع الباحثين العلميين وإتاحة أنواع مختلفة من مشاركات العلوم التي تستهدف الراشدين، والأطفال، والعائلات. وكان أهم أثر بلغ عنه ذاتيًّا لحضور مهرجان علمي هو تطور الاهتمام المتزايد والفضول بشأن المناطق الجديدة للمعرفة العلمية داخل بيئة محفزة اجتماعيًّا وممتعة». نُشر البحث أول مرة في أكتوبر 2012، ومع إنه عُني بمهرجان محدد، فإن الأدلة القولية للممارسين تشير إلى صلاحيته في عديد من الحالات، إن لم يكن كلها.

 

  في خطر: التعاون الفاضل بين من يعرفون كيفية إنشاء السياقات التشاركية  

  ومن يعرفون كيفية إنشاء المحتويات التشاركية  

 

يقترح هذا شيئًا قد يبدو واضحًا ولكنه في خطر متزايد: التعاون الفاضل بين من يعرفون كيفية إنشاء السياقات التشاركية وكيفية التعامل مع المحتوى ومن هم خبراء في إنتاج محتوى تشاركي من شأنه توليد تجربة مثالية لتضمين الناس. ولكن من خبرتي، فإن تحقيق هذا التعاون في صعوبة متزايدة، والسبب الرئيسي في ذلك هو الضغط الملقى على عاتق الجامعات والمؤسسات البحثية لإثبات أنها قادرة على تطوير فعاليات تواصل ناجحة.

 

تحدي ماري بوبينز

 

لطالما كانت الفعاليات العلمية وما زالت «صناديق ثقافية» تحوي مجموعة كبيرة من مختلف أدوات التواصل وأشكاله. وهي، في العموم، ليست متخصصة في موضوع واحد أو أسلوب تواصل واحد؛ لذا، يمكن في بعض الأحيان أن تترك انطباعًا بأن تصميم فعالية علمية ما يعني بالضرورة تطوير صندوق مثل هذا وأدوات متنوعة مثل تلك. وكأن إعداد فعالية قد يعني حزم حقيبة ماري بوبينز وبداخلها تقريبًا كل ما يمكن أن يكون نافعًا، ومن ثم إحداث مفاجأة عبر الكشف لاحقًا عما بداخل الحقيبة، الشيء الصحيح في الوقت الصحيح.

حسنًا، ليس بالضرورة. أعني أنك تريد إحداث مفاجأة، ولكن كلما تقدمنا بالفعاليات العلمية، بدا أن شيئًا واحدًا بالحقيبة يمكنه تحفيز عملية مشاركة عظيمة: «القليل كثير». إن نموذج حقيبة ماري بوبينز الذي يحتوي – أو يحاول احتواء – كل شيء ما زال ممكنًا، ولكن السبيل لتحقيق هذا يعتمد حقًا على السؤال الأساسي للفعاليات العلمية: لماذا قررت تنظيم تلك الفعالية؟ إنه تحديًّا مثيرًا للاهتمام يمكن أيضًا أن يصبح توجهًا نحو فعاليات متخصصة، إما تركز على شكل محدد للتواصل (مثل مهرجان للعروض فقط كما هو الحال مع مهرجان جزيرة أينشتاين) – وهو شيء كنت أحاول تطويره على مدار الخمس سنوات الماضية مع بعض الزملاء – وإما تركز على موضوعات معينة (مثل مهرجان الطعام والعلوم، أحد أحدث الأمثلة التي صادفتها في إيطاليا).

 

الصورة رقم 5: الجمهور يحضر عرضًا في جزيرة أينشتاين – إيسولا بولفيزي، بحيرة تراسيمينو، إيطاليا.
تصوير: ماركو جيولياريلي

 

بينما نقرر كيفية حزم الحقيبة، من الضروري التركيز على الجوانب الآتية: (أ) اختيار طريقة لتعزيز هوية الفعالية؛ (ب) الوصول إلى الجمهور الذي نريد الانخراط معه (ج) تعزيز النهج متعدد التخصصات.  والتفكير في النقطة الأولى سيعني وضع الفعالية بوضوح على الخريطة الواسعة التي وصفناها ومحاولة تحديد جوانب تفردها. ويجب أن يتأصل هذا التفرد بعمق في المجتمع الذي يستضيف الفعالية، وفي الجو الثقافي للسياق المحلي. هذا يعني أيضًا تجنب إنشاء نسخة طبق الأصل ببساطة من شيء رأيناه في مكان ما، إذ سيبدو غريبًا في سياقٍ جديد؛ فلن تستمر الفعالية بتلك الطريقة. يجب أن تكون الفعالية إجابة لحاجةٍ يتشاركها عديد من أصحاب المصالح ومنهم المواطنين.

 

  لم تُجرب بعد: مهرجان يُشرك المواطنين في تصميم الفعالية وإدارتها  

 

التجربة الممكنة لتعزيز هذا النهج – والواضح أنها لم تجرب بعد في فعاليات العلوم والمشاركة العامة ككل – هي تضمين المواطنين بفاعلية في تصميم وإدارة الحدث نفسه.  فكما شدد أندريا بانديلي، المدير التنفيذي لمعرض العلوم الدولي في أطروحة بحثه لدرجة الدكتوراه بعنوان «تحديد سياق مشاركة الزائر: مراكز العلوم كمنصة للمواطنة العلمية»: «سيستحق الأمر، أولًا، التحقيق في اهتمامات المواطنين واحتياجاتهم ليأخذوا دورًا نشطًا في العملية، وثانيًا، لاختبار نماذج المشاركة». ومع إن هذا النموذج قيد التطوير في بعض حالات مراكز العلوم ومتاحفها، إلا أنه يبدو مفقودًا كليًّا بالنسبة إلى فعاليات العلوم. ومن شأن دراسات الزوار التي تهدف إلى إبداع عملية إدارة تشاركية أن تطوِّر الفعاليات في إطار ناضج من المشاركة العامة.

 

تحدي المحافظة على شباب العقل

 

 إن الفعالية فرصة فريدة ومرنة جدًّا لاختبار أفكار جديدة، وتطويرها أو رفضها، بناءً على عمليات تقييم متينة. وحتى بعد التفكير بعمق في طبيعة الفعالية، يجب أخذ تحديًّا جديدًا بعين الاعتبار: ستتطور الخطوط العامة للفعالية بمرور الوقت، ويجب أن يكون المرء مستعدًا لتغيير أحد أحسن جوانب الفعاليات الثقافية واستغلالها، والتي على الأرجح ستضمن نجاحها في المستقبل: المرونة والقابلية للتغيير والتكيف سريعًا مع السياق المتطور. تجنب التفكير في أن فعاليتك ستظل كما هي إلى الأبد، واترك مساحة للتغييرات السريعة إذا كانت هناك حاجة إليها. وهذا سيكون مهمًّا أيضًا لاستدامتها ماديًّا؛ فيبدو أن الطريقة الصحيحة تتمثل في أن تكون عمليًّا دون خسارة هويتك.

هذا الأمر يتعلمه المرء من خلال الممارسة، ومن خلال ارتكاب الأخطاء وتطوير الأدوات الصحيحة لتقييم آثار الأفعال، والاعتراف بالأخطاء وتطوير استراتيجيات للتحسين المستمر.

 

الصورة رقم 6: أحاجي الرياضيات في الحانة، خلال فعالية ليلة الباحث الأوروبي 2015 في بيروجيا.
تصوير: ماركو جيولياريلي

 

تحدي الإثراء المتبادل بين الثقافات

 

الفعالية، تلك الأداة المرنة والمعقدة، هي أيضًا مذهلة لأنها تسمح بالحوار بين فاعلين ينتمون إلى مختلف المجالات الثقافية: ليس فقط خبراء العلوم والتكنولوجيا، وليس فقط العاملين في مجال توصيل العلوم وخبراء المشاركة العامة، ولكن أيضًا خبراء يأتون من مجموعة واسعة من الخلفيات؛ مثل: الفنون التشكيلية، والموسيقى، والرقص، والسينما، والمسرح، والتصوير، والاقتصاد، والسياسة، وعديد من الخلفيات الأخرى. ويتجلى تحدي الإثراء المتبادل بين الثقافات في تصميم الفعاليات، بدءًا من المشكلات والموضوعات التي يمكن أن تتعلق بجمهور واحد أو أكثر، والتطرق إلى تلك المشكلات من مختلف المناظير الممكنة عبر الحوار بين جميع تلك الجهات الثقافية. يتطلب هذا الإجراء تطوير مهارات وساطة احترافية لتحفيز مناقشات بين خبراء يأتون من مجالات مختلفة ومواطنين ذوي توقعات ووجهات نظر مختلفة.

 

  يحفز مطورو الفعاليات مثل المعماريين الثقافيين المناقشات  

  بين الخبراء والمواطنين من مجالات وخلفيات متنوعة  

 

 أعتقد أن مطوري الفعاليات سيصبحون بشكل متزايد معماريين ثقافيين بشكل ما. ومع إننا سنستمر بالتحدث عن الفعاليات العلمية، فسوف ننتقل إلى الفعاليات الثقافية المُصممة بإحساس واسع، والتي تقودها الأسئلة أكثر من الضوابط. سيستمر العلم والتكنولوجيا في توفير الأدوات، والمناهج، والمحتوى، والوسائل اللازمة لمخاطبة الأسئلة المحددة التي تصف تلك الفعاليات، ولكن عبر شبكة متنامية من الروابط الثقافية مع مجالات أخرى من المعرفة البشرية.

 


عزيزي القارئ، إلى أين تتوقع أن تتجه الفعاليات والمهرجانات العلمية؟ هل تتفق مع ليوناردو ألفونسي في أن مطوري فعاليات العلوم سيصبحون «معماريين ثقافيين بشكل ما»؛ حيث ينظمون الفعاليات الثقافية التي تضم العلوم (على عكس الأنشطة العلمية التي تأخذ شكل الفعاليات)؟  ما الفرص والتحديات التي تراها لمستقبل هذا المجال؟


نُشر المقال الأصلي باللغة الإنجليزية في العدد رقم 32 (اغسطس، 2017) من مجلة «سبوكس» Spokes الإلكترونية التي تصدرها رابطة مراكز ومتاحف العلوم الأوروبية Ecsite تحت عنوان: «ساعة الذروة» Rush Hour، ويمكنكم الاشتراك مجانًا في مجلة «سبوكس» من هنا.

قامت رابطة المراكز العلمية بشمال أفريقيا والشرق الأوسط NAMES بترجمة المقال ونشره باللغة العربية بتصريح من رابطة مراكز ومتاحف العلوم الأوروبية ومن المؤلف/المؤلفين، وتتحمل NAMES مسئولية هذه الترجمة.

لا يجوز إعادة إنتاج هذا المحتوى، سواء بالإنجليزية أو العربية، بأي شكل من الأشكال، دون الرجوع إلى رابطة مراكز ومتاحف العلوم الأوروبية Ecsite.