ربط العلوم بالواقع


بقلم: سهام الشريف

 

يولد الإنسان محبًّا للاستكشاف بالفطرة. وحيث إن كلَّ اكتشاف علمي يبدأ بسؤال؛ فيجب أن تثير دراسة العلوم فضول الطلاب نحو طرح الأسئلة. وهكذا، فإن طرح الأطفال للأسئلة يدل على أن عملية توصيل المفهوم العلمي قد تمت بنجاح وأثارت فضولهم لمعرفة المزيد.

ومن فوائد دراسة العلوم أنها تحبب الطلاب في التعلم؛ فهي تبحث عن إجابة التساؤلات التي تبدأ بـ«كيف» و«لماذا» حول كل ما هو متحرك وديناميكي في العالم من حولنا. كما أن دراسة العلوم تزيد من إبداع الطلاب وتعلمهم مبادئ التفكير العلمي والتفكير الناقد.

ويقصد بالتفكير الناقد تحليل المشكلة ومحاولة حلها بطريقة منطقية، والبدء في التساؤل عن أسباب حدوث شيء ما؟ وما الأدلة؟ وما مدى صحتها؟ وهل تقييم الأدلة مبني على المعلومات؟ وهل التقييم موضوعي أم متحيز؟ وهل يوجد تفسيرات أخرى لما يحدث؟

ولتشجيع الطلاب على التفاعل مع دروس العلوم وزيادة فضولهم لفهم الظواهر العلمية بتمعن وعمق، علينا استخدام التجارب وربط العلوم بالواقع الذي نعيشه، وذلك بدلًا من الحفظ والتلقين.

لمحة تاريخية عن طرق التعليم

اعتمد التعليم في الماضي على الحفظ والتلقين، ولكن في بداية القرن العشرين جاء كل من جوهان فريدريك هربرت Johann Friedrich Herbart وجون ديوي John Dewey –وهما من علماء التربية– ليؤكدا أن التعليم لا بد أن يركز على خبرات الطالب المعاصرة. وأشارت الأبحاث بعد ذلك أن أفضل طريقة للتعلم تكون من خلال إجراء التجارب والأنشطة، والبحث عن الأفكار، والملاحظة وتفسير المشاهدات، وربط المفاهيم العلمية بالواقع.

وبعدها، قدم كل من هيربرت ثاير Herbert Thier وروبرت كاربلاس Robert Karplus استراتيجية دورة التعلم الثلاثية التي تؤكد أهمية تفاعل الطالب داخل الفصل في بداية الدرس عن طريق إيضاح العلاقة بين خبراته ومعرفته بمفاهيم الدرس. ثم جاء روجر بايدي Rodger Bybee وطور دورة التعلم الثلاثية لتصبح خماسية، موضحًا أن الخطوة الأولى هي جذب انتباه الطالب لإثارة فضوله وربط معرفته السابقة بالمعرفة الجديدة.

دورة التعلم الخماسية The 5Es Model

دورة التعلم الخماسية استراتيجية للتدريس مفيدة في ربط المفاهيم العلمية بخبرات الطلاب، وهي مكونة من خمس مراحل تبدأ جميعها بحرف «E» في اللغة الإنجليزية، وهي كالتالي: جذب الانتباه Engagement، والاستكشاف Exploration، والشرح Explanation، والتفسير Elaboration، والتقييم Evaluation، لذا تعرف في اللغة الإنجليزية بـ5Es.

تبدأ الاستراتيجية بمرحلة جذب الانتباه، ويتم ذلك من خلال إعداد نشاط قصير هدفه التهيئة لتلقي المعلومات الجديدة وربطها بما سبق دراسته. ويتضمن جذب الانتباه استخدام الصور ومقاطع الفيديو، أو طرح سؤال جدلي مثل: هل تغير المناخ حقيقي؟ أو مناقشة الطلاب حول خبراتهم المتعلقة بموضوع الدرس.

وبعد مرحلة جذب الانتباه تأتي مرحلة الاستكشاف، حيث يبدأ الطلاب باستكشاف المفهوم الجديد عن طريق بعض الأنشطة، مثل فحص العينات أو إجراء تجربة بسيطة وتسجيل ما يشاهدونه. ثم تأتي مرحلة الشرح، وفيها يحاول الطلاب شرح ما جرى عند الاستكشاف، ويساعدهم المعلم بتوضيح الأجزاء الغامضة وشرح المفهوم العلمي.

أما مرحلة التفسير، فهي مرحلة تطبيق ما تعلمه الطلاب في سياقات مختلفة، أو ربط ما تعلموه بخبراتهم أو بما يحدث حولهم. والمرحلة الأخيرة هي التقييم، وهي توضح ما إذا كان الطلاب قد فهموا المفاهيم الأساسية بعمق أم لا، ولا تقتصر على الاختبارات وحل التمارين فحسب، بل تشمل أيضًا تقديم العروض وتصميم الملصقات وكتابة المقالات.

ربط العلوم بالواقع

من المهم أن نهتم بجودة التعليم في المدارس وغيرها من المؤسسات التعليمية. ولربط العلوم بالواقع وبالمعارف السابقة، نحتاج إلى تطبيق ما يتعلمه الطلاب عبر تنفيذ أنشطة مستمدة من المواقف اليومية؛ ليتعرفوا على تأثير العلوم في حياتنا. ويجب أن يشعر الطلاب بأهمية ما يدرسونه، وما الذي سيعود عليهم من تعلمه في حياتهم.

أشارت الأبحاث أن ربط العلوم بالواقع وربط المنهج الدراسي بما يحدث خارج الفصول الدراسية، وربط الظواهر العلمية بالتجارب الحياتية يؤدي إلى تحسين التحصيل الدراسي لدى الطلاب ويعدهم بشكل أفضل لوظائف المستقبل، كما يحسن من مهاراتهم التي تساعدهم في حياتهم.

فلابد أن يدرك الطالب أهمية ما يدرسه فيما يخص جوانب عدة: هل يتعلق بأحلامه أو تطلعاته أو تجاربه أو هواياته أو مستقبله المهني أو حياته الاجتماعية أو ثقافته المحلية؟ هل سيجعله مواطنًا أفضل؟ وهل يتعلق بالسياسة أو حياته المدنية أو يوضح له دوره في العالم؟

وكمثال على ما سبق، نفترض أن المعلم يريد أن يوضح للطلاب أهمية درس عن أنماط الطقس؛ فيمكن أن يبين لهم أن دراستها ذلك ستساعدهم على حسن التخطيط للإجازات الأسبوعية، أو ربما يزيد فضولهم بالتخصص المهني في مجال الأرصاد الجوية، أو لفت أنظارهم إلى المسئولية التي تقع على عاتقهم تجاه مجتمعهم للتعامل مع آثار التغير المناخي.

قد يكون ربط درس العلوم بالواقع عن طريق الإتيان بمثال أو موقف من الثقافة أو الفن، أو عن طريق ربط الأحداث العالمية بحياة الطالب. فإذا كان الموضوع محل المناقشة هو الجفاف، يسأل المعلم الطالب ما الدروس المستفادة من ملاحظة ظاهرة الجفاف الذي تحدث في مناطق مختلفة من العالم؟ ربما يساعد هذا الطلاب على التفكير في مشكلة توافر المياه النظيفة أو محاولة تصميم نظام لتنقية المياه.

يمكن تكليف الطلاب بتنفيذ مشروعات لاقتراح الحلول لبعض المشكلات، مع تعليمهم كيفية التفكير العلمي عند حل المشكلات. وتبدأ بالملاحظة، ثم التساؤل حول تلك الملاحظات، ثم جمع المعلومات اللازمة للإجابة على التساؤلات، ثم وضع افتراضات واختبارها عبر التجارب، ثم تحليل بيانات التجارب ووضع الاستنتاجات.

يجب على المعلم توضيح أهمية إجراء التجارب العلمية قبل تنفيذها في المختبرات المدرسية، وذلك عن طريق شرح مثال عملي بناء على مواقف من تأليف المعلم. ويمكن توضيح طريقة تفكير العلماء في اكتشاف أو وضع النظريات، أو طريقة تفكير المهندسين عند إعدادهم للتصميمات.

المعلم المبدع

المعلم المبدع هو المعلم الذي لا يكتفي بالطرق التقليدية في التدريس، ولكنه يحب التطوير في طريقة تدريسه. فيبدع في أسلوب تحفيز الطلاب نحو التعلم العميق والتفكير الإبداعي، ويجعل طلابه يطرحون كثيرًا من الأسئلة، ويربط بين المعرفة والتطبيق العملي، كما يحاول الربط بين العلوم والمواد الدراسية الأخرى التي يتعلمها الطلاب.

لتوضيح الفرق بين الطرق التقليدية والإبداعية في تدريس العلوم، سنطرح مثالًا على شرح درس كثافة العظم. هنا، سيطلب المعلم الذي يتبع الطرق التقليدية من الطلاب نقع عظمة من الدجاج في إناء خل لمدة يوم، ومراقبة ما سيحدث لكثافة العظم. أما المعلم المبدع فسيطور هذه الطريقة مستخدمًا سؤالًا استرشاديًّا؛ فيسأل طلابه كيف يمكن أن تتغير كثافة العظم من تأثير أحد المكونات التي نستخدمها في الحياة اليومية، ويعطيهم بعض المراجع ليبحثوا عن إجابة هذا السؤال.

وسيقوم المعلم المبدع حينئذٍ بتقسيم الطلاب إلى مجموعات، لتبحث كل مجموعة في عدة أسئلة، ثم تعرض كل مجموعة الأسئلة التي لديها. ثم تأتي المرحلة المقبلة لاختيار السؤال العلمي الذي سيعملون على إيجاد حله، ومن ثم يجرون التجارب ويجمعون البيانات ويفسرونها ويعرضونها في شكل رسوم بيانية. وفي النهاية يصل الطلاب إلى الاستنتاج النهائي، ويستخدمون الأدوات التكنولوجية لعمل تصميم يلخص ما وصلوا إليه، سواء كان في صورة إنفوجراف أو فيديو أو مقال. وهكذا يتعلم الطلاب ما الذي يؤثر في كثافة العظام وكيفية الحفاظ على صحة العظام.

وفيما يلي مثال آخر: في الطريقة التقليدية يطلب المعلم من طلابه قراءة بحث ما ثم تلخيص أهم ما جاء فيه، ولكن المعلم المبدع يطلب من طلابه قراءة البحث ثم استخدام التدوين البصري لتلخيص أهم النقاط، موضحين العلاقة بين ما تعلموه وما له علاقة بالحياة والواقع. والتدوين البصري هو أسلوب لتدوين المعلومات معزز بالرسوم التوضيحية والرموز والألوان.

أمثلة واقعية لربط العلوم بالواقع

نستعرض فيما يلي ثلاث أمثلة على تجارب لمعلمي العلوم الذين نجحوا في ربط المقررات المدرسية بالواقع الذي يعيشه الطلاب.

المثال الأول هو ما اتبعته معلمة العلوم في إحدى المدارس بولاية كولورادو في الولايات المتحدة الأمريكية. فلكي تشرح درسًا عن مصادر الطاقة المتجددة وغير المتجددة لطلاب الصف الخامس الابتدائي، بدأت الحصة الدراسية باستخدام لعبة «بنجو لكسر الحواجز» Icebreaker Bingo، ثم طلبت منهم تعرف الألواح الشمسية وتوربينات الرياح من خلال الكتب، ثم تصميم توربينات الرياح وبناء نماذج لها، واستخدام مجسات لجمع البيانات وتحيل النتائج.

ومن خلال ذلك، تعلم الطلاب كيفية قياس التيار والجهد الكهربي، وفهموا أن تلك العوامل تتغير نتيجة لتغير الحمل على الدائرة الكهربية. وهكذا، ساعدهم التدريب العملي على فهم الدرس فهمًا عميقًا. بعدها، بدأ الطلاب يطالعون الكتب ويشاهدون مقاطع الفيديو ويتصفحون المواقع الإلكترونية ليتعرفوا مميزات الطاقة المتجددة وعيوبها، ثم يدونوا ما تعلموه في دفاترهم الخاصة. الآن، أصبح الطلاب جاهزون على الإجابة على سؤال: هل يجب على ولاية كولورادو تأسيس مبادرة تهدف إلى التوسع في استخدام الطاقة المتجددة؟

والمثال الثاني هو ما قام به بعض المعلمين في ولاية ميزوري في أثناء جائحة كوفيد-19، إذ أجروا تعديلًا على منهج الأحياء للصف العاشر ليضم جزءًا خاصًّا بكوفيد-19، وذلك بالتعاون مع جامعة ميزوري.

والمثال الثالث هو ما قامت به معلمة العلوم جولي فوينر Julie Wojnar في ولاية أوهايو، عندما كانت تشرح الأنظمة البيئية للطلاب. فكانت تذهب بهم في رحلات ميدانية إلى منتزه يطل على بحيرة إيري في أوهايو، وهناك يجري الطلاب تجاربهم على المياه، ويستكشفون الكائنات الحية في النظام البيئي للبحيرة، ويتعرفون كيف تعمل الشبكات الغذائية للكائنات الحية. وعندما يأتي درس الصوت، تنظم لهم برنامجًا خاصًّا تستضيف فيه متخصصين، ليجروا معهم بعض الأنشطة الخاصة بالصوت. فاستخدم الطلاب الأدوات العلمية لقياس شدة الصوت، وفهم معنى الديسيبل والموجات الصوتية وكيفية انتقالها، وتعلموا كيف يحمون أنفسهم من فقدان السمع.

 

في الختام، فإن ربط العلوم بالواقع يكون في الأساس عن طريق إيجاد العلاقة بين خبرات الطالب والمعرفة الجديدة التي سيتعلمها. ولكن يبقى التحدي أمام المعلم هو وجود متغيرات كثيرة فيما يتعلق بخبرات كل ومعرفته وثقافته وطريقة تعلمه. إن معرفة خبرات كل طالب أمر صعب إلى حد ما بالنسبة للمعلم، وهنا يأتي دور أولياء الأمور في التعاون مع المعلمين لتحقيق تطوير بالغ الأثر في العملية التعليمية.

 


المراجع